التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فوتوكوبي | ببلولا

نظرة نقدية عن فيلم «فوتوكوبي»، بقلم عمر فتحي دسوقي!

رومانسية بطعم الفريز! (عن الديناصورات، والباوازيك، وأشياء أخرى).

هل سمعت عن هذا الفيلم من قبل؟ أغلب الظن، لم تسمع عنه شيئاً! الفيلم لا يحتوي على عري، ولا بلطجة، ولا مؤثرات بصرية، ولا ألفاظ خارجة. الفيلم لا يحتوي على قضية سياسية تخص فصيل ما ضد فصيل أخر، لهذا أنت لن تسمع عنه شيئاً! الفيلم ليس من بطولة "عز" أو "كرارة"، ولا من بطولة "رانيا يوسف" ولا حتى "ياسمين صبري"، لذلك أنت لن تسمع عنه شيئاً!

هذا فيلم مبهج قدر ما هو مؤلم، مفرح قدر ما هو محزن، يترك في روحك نفس الإحساس الذي تخلفه حبة من الفريز في فمك في برد ديسمبر من نشوة مصحوبة بالألم لأن مذاقها سيخبو بعد قليل. الشعور "بالنوستالجيا" تجاه شيء لا تدري كنهه بالضبط، هل هو الحنين لعمر مضى؟ أم رفاق رحلوا؟ أم هو الرعب لأنك ستبلغ هذه المرحلة يوماً ما، إن كنت لم تبلغها بعد؟

فيلم "فوتوكوبي" انتاج 2017، من تأليف "هيثم دبور"، من إخراج "تامر عشري"، موسيقى السورية "ليال وطفه"، ومن بطولة المبدع "محمود حميده"، و"شيرين رضا".

تدور أحداث الفيلم حول "محمود"، أو كما يناديه البعض "محمود فوتوكوبي". رجل على المعاش، لم يسبق له الزواج، وليس له أولاد، يمتلك دكاناً صغيراً لتصوير وطباعة الأوراق. الدكان به جهازين "كمبيوتر" وماكينة تصوير وطباعة مستندات. "محمود" يهيم حباً بالسيدة "صفية" أو كما يدعوها "الست صفية"، امرأة تخطت الستين من العمر، توفى زوجها، ولها ولد وحيد، تركها وهاجر ولا يزورها ولا يتصل بها، حتى عندما تتصل هي به، فإنه يضن عليها بالثواني القليلة التي تستغرقها المكالمة.

"محمود" يتلذذ بتعذيب الأستاذ "حسني"، ويقوم بدوره الفنان الرهيب عندما يرغب "بيومي فؤاد". "حسني" هو مالك العمارة التي يقطن بها "محمود" وبها أيضاً دكانه الصغير. "محمود" متأخر في دفع نقود الصيانة، لا لشيء إلا ليثير غيظ الرجل! "محمود" يجد "حسني" شخصية مستفزة، لذا فهو يستمتع بإثارة جنونه، وهو ناجح جداً في هذا الصدد. على الرغم من ضائقة "محمود" المالية، إلا أن هذا ليس هو السبب الرئيسي لتأخره في الدفع! إن ما يفعله "بحسني" يعتبر أحد مباهج الحياة بالنسبة له!

"الست صفية" مريضة بالسكر مما يستلزم زيارتها للصيدلية يومياً لتتلقى حقنة "الأنسولين"، بالإضافة لذلك، فقد نجحت في هزيمة سرطان الثدي. "محمود" يرى "الست صفية" عند ذهابها للصيدلية ليختلس منها بعض الكلمات التي لا تنجح في إطفاء شوقه، قدر ما تزيده ولهاً.

أثناء كتابته لفقرة من كتاب لأحد الطلبة، الذي يمتلك جهاز "كمبيوتر" وطابعة بالفعل ولكنه "مكسل" أن يفعل ذلك من أجل درجتين أن يكتب بحثاً طلبته أستاذة المادة عن الديناصورات، يقرأ "محمود" عن إنقراضها، فيصبح همه الشاغل طوال الفيلم هو البحث عن إجابة السؤال: لماذا انقرضت الديناصورات؟! على الرغم من أن الفقرة احتوت على الإجابة (والتي ليست بالضرورة الإجابة الصحيحة علمياً) وهي: انقرضت الديناصورات لعدم توائمها مع البيئة المحيطة!

نحن الأن نعرف الاسقاط المباشر، وأن "محمود" و"صفية" هما من الديناصورات، وفي طريقهما للإنقراض! لذا يجب على "محمود" أن يجد طريقة للتواؤم مع بيئته المحيطة هو الأخر.

على الجانب الأخر، تقضي "صفية" أيامها في الاستماع إلى المذياع بحثاً عن أغنية "قلبي ومفتاحه" في تسجيل نادر "لفريد الأطرش" غنى فيه "كوبليه" لا تحتويه الأغنية الأصلية. هذا "الكوبليه" مكتوب بصيغة "حريمي"، وهو الدليل على أن الأغنية كانت مكتوبة في الأصل من أجل "ليلى مراد"! ولكن مع الأسف، لا يتم إذاعتها مرة أخرى، حتى يهديها "محمود" شريط "كاسيت" مسجل عليه هذا التسجيل النادر. هل الأغنية ترمز إلى الحياة التي تبحث عنها "صفية"، وقد جاء بها "محمود" إليها؟ أم هي القطة الجميلة التي رأتها على الدرج أمام باب شقتها وكلما حاولت الإمساك بها تهرب منها، حتى أتتها طواعية ودخلت شقتها بعد أن طلب منها "محمود" الزواج؟ الأمر متروك للمشاهد.

لا توجد شخصية في الفيلم لن تجد لها نظيراً في حياتك الواقعية. أنا شخصياً صادفت 3 أو 4 نماذج لشخصية "محمود". ذلك الشيخ الستيني الذي يرتدي "كاسكيته" ليلاً لينعم بالدفء، بينما هو جالس أمام دكان تصوير، أو أدوات كهربائية، أو محل خردوات. المحل خاوي على عروشه دائماً من الزبائن، وهو هناك، جالس نفس الجلسة، تحتاج إلى معجزة لتجعله ينهض من مكانه ليحضر لك ما تريده!

من منا لم يقابل في حياته شخصية "صفية" المسكينة؟ ليست مسكينة مادياً، ولكنها مسكينة لمعاناتها من الوحدة، وقد توفى زوجها، وأهملها ابنها أو أولادها؟ إنها موجودة دائماً، قد تكون جارتك في العمارة، قد تراها تحضر لمكان عملك لتقضي مصلحة ما، أو ستصادفها في الصيدلية تشتري الدواء.

شخصية "أسامة" الساب صاحب "السايبر" حيث يتجمع المراهقون من أجل ألعاب الفيديو، والذي يحاول اقناع "محمود" ببيعه أو تأجيره دكانه الملاصق له ليتوسع، و"محمود" يرفض في عناد.

شخصية الصبي "عبد العزيز" الذي يقضي الطلبات لسكان العمارة، بلغته المستحدثة ليصبح ضلعاً أخر من أضلاع البيئة المحيطة والمطلوب التواؤم معها، حتى أنه لا ينادي "محمود" سوى "يا زميلي" وهو في عمر جده.

هل صادفت من قبل شخصية مثل شخصية "حسني"؟ بالتأكيد فعلت! الشخصية المقيتة التي تجعلك دائماً راغب في تحطيم رأسها ولكن التهذيب يمنعك من ذلك!

حتى شخصية المتفرج في دار السينما، عندما أصر "محمود" على دعوة "صفية" فلم يجدا أي فيلم عربي يعرض، فيدخلا فيلما كارتونياً، والذي بالمصادفة يحكي عن الديناصورات. يطلب "محمود" من "صفية" أن تقرأ له الترجمة لأنه لا يحمل عوينات القراءة، وعندما تفعل يسألها مستوضحاً وهو يرفع حاجبيه في انبهار من براءتها "أرنو هو اللي قال لسبوت كده؟" فينفجر الرجل الجالس خلفهما "مش كفاية مخليها تقرالك الترجمة؟ هو انت شايف أي حد موجود غير أرنو وسبوت؟ هيكون مين اللي قاله؟" في هذا الموقف وعلى الرغم من رغبتك بأن تصرخ في الرجل "وانت مال ...؟" ثم تصفعه على وجهه حتى تسقط أسنانه، ولكن "محمود" لا يفعل ذلك مع الأسف، من الواضح أنه أرقى مني ومن كل من يرغب في فعل ذلك مثلي! تنهض "صفية حزينة ومحرجة فيتبعها "محمود" وهو يسألها "مش هنكمل الفيلم؟" فتخبره في حزن أنهما لا يجب عليهما مشاهدة مثل هذه الأفلام لكبر سنهما، فيخبرها "محمود" في وله "إنتي جميلة قوي يا ست صفية"!

ينتهي الفيلم بزواج "محمود" و"صفية" على الرغم من رفض ابنها (ذلك اللعين!) وموافقة "محمود" على مشاركة "أسامة" في "السايبر" ليتفرغ هو لزوجته، ويحيا في راحة بال وهناء، بعد أن تواءم مع البيئة المحيطة حتى لا ينقرض، ولينعم الأولاد "بالباوازيك"!

كل هذه العوامل تجعلك تشعر بألفة عجيبة عند مشاهدة الفيلم، حتى لتشعر أنك وسط الأحداث، قريب من الشخصيات. أما عن الأداء التمثيلي، فلن أستطيع أن أقول ما يكفي عن "محمود حميده" سوى أن الرجل قد وصل لقمة النضج الفني في أداؤه، بينما عتابي على "شيرين رضا" هو حصرها لنفسها في أدوار المرأة اللعوب، بينما يمكنها أن تقدم أداء هادئ راقي مثل الذي قدمته في هذا الفيلم.

الفيلم كما قلت لا يحتوي على أي مشاهد أو ألفاظ خادشة للحياء على الإطلاق. ولا أتمنى سوى أن تنتج لنا السينما المصرية أفلام هادفة على نفس المستوى!

ملحوظة:

"الفريز" لمن لا يعلم هي "الفراولة"، أما "الباوازيك" فهي كلمة مصرية مستحدثة، جمع، ومفردها "بازوكا" وهو المدفع المضاد للدبابات. من الواضح أن المصطلح شائع لبين المراهقين الذين يلعبون ألعاب الفيديو التي يكون فيها اللاعب مسلح بأسلحة متعددة من ضمنها "البازوكا". لذا، عندما ظن الفتى أن "محمود" سيستخدم الجهاز للعب ضده قال له "مافيناش من الباوازيك!" بمعنى أنه يحظر استخدام مدافع "البازوكا" في اللعبة حتى لا تنتهي سريعاً!

⇻⧫⇹⇹⇹⇹⧫⧪⧫⇹⇹⇹⇹⧫⇺

الكاتب⇙ د. عمر فتحي دسوقي



تعليقات