قصة «كارما»، بقلم عمر فتحي دسوقي!
استيقظ الصول "أمين" من نومه وهو يرتدي "الفانلة" الداخلية البيضاء و"بنطال" المنامة "الكستور" الأبيض المقلم بأخضر، بينما وضع في قدمه شبشب من الذي يطلق عليه "زنوبة"، وهو يفرك عينيه من النعاس.
دخل إلى حمام المنزل المبلط بالقيشاني، قضى حاجته في بطء، فهو يعاني من تضخم البروستاتا منذ عشر سنوات لأسباب نعزف عن ذكرها هنا. غسل وجهه، وتوضأ ليصلي الصبح، ثم جلس على مقعده أمام مائدة الطعام، وقد وضع عليها طبق مليء بالفول وأخر به ثلاث أقراص من الطعمية، ورغيفين من العيش البلدي الساخن الذي تتساقط منه الردة، وكوب من الشاي بالنعناع. كان الصول "أمين" يعيش في شقة صغيرة بشارع "الجيوشي" بحي شبرا، على الرغم من عمله بإدارة مرور التجمع الخامس. ولطالما نصحه صديقه الأسطى "حسين" قائلاً:
- يا صول "أمين" انت بتهلك نفسك في المواصلات، ما تقدم طلب نقل لمرور شبرا وتريح نفسك بدل المرمطة!
فيجيبه ضاحكاً:
- إيش فهمك انت يا "سحس"! شغل التجمع كله مميزات، لما تكبر هقول لك عليها!
طبعاً كانت تلك المميزات التي لن يفهمها الأسطى "حسين" إلا بعد يومين تحديداً، هي الطبقة الاجتماعية التي يفضل الصول "أمين" التعامل معها. فعلى الرغم أن الصول "أمين" يحيا حياة الكفاف، لم يكن إيراده الشهري يقل عن 15,000 جنيه مصري، وأحياناً قد يصل إلى 20,000 جنيه! لم يكن هذا عن طريق راتبه بالطبع، ولكن عن طريق المحسوبيات والخدمات، وتخليص المخالفات. بالطبع، يمكنه أن يفعل ذلك من أي إدارة مرور، ولكن الثمن سيختلف بالتأكيد. فقاطني القصور يدفعون بسخاء منقطع النظير لقاء اتقاء ما اتفق على تسميته "بالمرمطة" في اي مكان حكومي.
وهنا يبرز دور الصول "أمين"، فهو قادر عن طريق موقعه وعلاقته الطيبة بكل الموظفين في الادارة، على انجاز ما قد يستغرق يوماً أو يومين، خلال ساعة واحدة فقط. ولأن الفئة المتعاملة مع مرور التجمع أغلبها من رجال الاعمال، والذين يتميزون بالثراء الفاحش، فدائماً بالنسبة لهم الوقت يساوي المال، أو كما يقولون بالانجليزية "Time is money". لذا، فقد كانوا لا يترددون في دفع عشرة أضعاف ما قد يدفعه سائق لوري أو سيارة أجرة، أو مواطن يقود سيارة فيات 128 لقاء نفس الخدمة. لذا، كان العمل في ادارة مرور التجمع هو أقصى ما قد يطمح إليه من كان مثل الصول "أمين".
هنا قد يتساءل سائل، كيف يحيا تلك الحياة المتقشفة من كان له مثل هذا المورد الشهري؟ الواقع أنه لا أحد يستطيع اجابة هذا السؤال، ولا حتى الصول "أمين" نفسه! هو مطلق، وله ثلاثة أولاد في التعليم، لا يدفع نفقة لزوجته، فقد استطاع عن طريق التحايل على القانون وبمساعدة المحضرين، أن يجعل القضية التي رفعتها عليه زوجته تختفي في أرشيف المحاكم. أما عن أولاده، فهو يرسل إليهم ثلاثة ألاف جنيه شهرياً لزوم الاعاشة، والتي تكاد تكفيهم، فكلهم في مراحل دراسية مختلفة، ويأخذون دروساً خصوصية، بالإضافة لمصاريف الحياة العادية من أكل وشرب وملبس، وعلاج، إلخ. لكن الصول "أمين" كان يرى أنه يؤدي ما عليه ويفيض.
إذن، كيف ينفق الصول "أمين" باقي إيراده؟ هو لا يعلم! هل هو الحشيش؟ ما يصرفه على الحشيش شهرياً لا يتجاوز 500 - 700 جنيه. هل له علاقات نسائية مكلفة؟ هو لا ينفق على علاقته بسنية جارته أكثر من ثمن زجاجة البيرة ونصف كيلو الكباب، مرتين أسبوعياً عند ذهاب زوجها لوردية الليل بالمصنع. كان الموضوع يمثل له لغزاً يستعصي على الفهم. ذهب مرة بعد صلاة الجمعة لشيخ المسجد، الشيخ "عرفه" ليسأله:
- قل لي يا شيخنا، أنا بكسب كويس الحمد لله، ومصاريفي قليلة، لكن دايما أخر الشهر مش بلاقي معايا فلوس، ايه السبب؟
فأجابه الشيخ عرفه:
- شوف يا بني، اللي انت بتقوله ده اسمه قلة بركة، ودي ما تجيش غير من المال الحرام. واللي بييجي من حرام بيروح في الحرام.
لم يفهم "أمين" هذا المنطق أبداً. بالنسبة له، فهو يصلي الفرض، ويصوم رمضان، ويتصدق بجنيه كل جمعة في صندوق المسجد. هو يساعد الناس ويؤدي لهم خدمات، هل يرفض عندما يعرض عليه أحدهم مقابل لخدماته؟ ثم ما هو الحرام الذي ينفق فيه ماله؟ الحشيش من النباتات الطبية كما قال له أحد الضباط من قبل وهو يضحك، والبيرة لا تسكره، اذن فهي ليست حراما. بالطبع، لم يتطرق عقله لعلاقته بسنية، لقد أسقطها من تحليله تماماً. لذا، بقي هذا اللغز مستعصياً على فهمه.
جلس "شوكت حسين"، رجل الأعمال المعروف، على مكتبه بفيلته المتواضعة إلى حد البذخ في أرقى "كومباوند" في منطقة التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة، وهو يراجع أسعار أسهم البورصة على حاسوبه المحمول من طراز "ماكينتوش"، بينما كان يرفع بصره عن الشاشة مرة كل ثلاثة دقائق بالضبط ليلقي نظرة اطمئنان على ابنته الوحيدة، ""لارا""، عبر نافذة المكتب، حيث كانت تسبح في حمام السباحة الخاص بالفيلا، والذي تم تصميمه خصيصاً ليتيح له مراقبتها على هذا النحو، فقد كان هذا هو روتينه اليومي، بعد أن تناول افطاراً يتكون من الزبادي والعسل والشعير اتباعاً لتعليمات طبيبه الخاص لتخفيض نسبة الكوليسترول بالدم، والحفاظ على مستوى السكر الذي كان يلهو مع ضغط الدم لديه على الأرجوحة التي على شكل الميزان، كلما انخفض أحدهما ارتفع الأخر، بالإضافة لقرحة المعدة نتيجة لتدخينه المفرط وادمانه القهوة أيام شبابه، ولكنه كان يبقيها تحت السيطرة. كان يرتدي قميصاً انجليزياً، وفوقه صديرياُ من الصوف الانجليزي، على "بنطال" من "الجينز" الأمريكي.
كان قد اعتاد على العمل من المنزل منذ فترة، بعد أن ترك ادارة الشركات لأخيه الأصغر، "جودت"، بينما يتابع هو كل شيء عن طريق الشبكة العنكبوتية، ويعطي أوامره اما عن طريق المحمول، أو الاجتماع برؤساء الأقسام والادارات عن طريق "الكونفرنس كول". فبعد أن أصبحت القاهرة مزدحمة بطريقة لا تطاق، أصبح يؤثر البقاء داخل منطقة القاهرة الجديدة، فلا يغادرها إلا مضطراً، ويحاول دائماً أن يفعل ذلك مبكراً في أيام العطلات الرسمية وأيام الجمع، حتى تكون الطرق غير مزدحمة.
كانت أعمال "شوكت" لا يمكن تصنيفها تحت أي بند سوى أعمال احتكارية بحتة، لاي سلعة يمكن أن تدر مالاً. سواء كانت حديد تسليح، أو أسمنت، أو مستلزمات مستشفيات، أو أدوية، أو أغذية. كان من القلة المتحكمة في سعر أي شيء وكل شيء. ساعده على ذلك غياب أي قانون، أو بالأحرى غياب التطبيق لأي قانون من قوانين الاستثمار في مصر. كم من عامل تسبب في تشريده هو وأسرته بعد تخصيص مصنع أو شركة لمجموعته، كم من شركة صغيرة تسبب في غلقها بسبب زيادة أسعار سلعة معينة. كان دائماً يتباهى بتوحشه في سوق رجال الأعمال ويقول "إذا لم تأكل، تؤكل!"
كان اليوم يوافق عيد مولد "لارا" ابنته، وقد أتمت ثمانية عشر عاماً، وكان "شوكت" قد أعد عدته للاحتفال بهذه المناسبة العظيمة، ف"لارا" هي أغلى انسان عنده في الوجود، والحق يقال هو لم يدخر وسعاً في تدليلها، فقد كانت كل طلباتها مجابة دائماً، لذا هو كان يدرك جيداً أن هديته الخاصة ستحوذ اعجابها حتماً، فهي كانت تنتظر بلوغ الثامنة عشر بفارغ الصبر لتستخرج رخصة قيادة. وعلى الرغم من تدليله لها، فهي لم تفصح أبداً عن رغبتها تلك ولا عن نوع السيارة التي تحلم بها، ولكنه استطاع أن يعرف بطرقه الخاصة. سيارة "بي ام دبليو" حديثة الموديل، من الطراز الرياضي، لونها فضي لامع، يتجاوز ثمنها المليون جنيه. ولكنه ثمن بخس يدفعه لشراء سعادة ابنته الوحيدة، بالإضافة إلى أن المبلغ لا يتجاوز نصف ايراده اليومي.
لقد تم استيراد السيارة من "ألمانيا" بالفعل ووصلت إلى التوكيل منذ أسبوع كامل وتم تسجيلها باسم ابنته اليوم، بعد أن تم إصدار كل الأوراق وبقيت على التوقيع النهائي بعد استصدار الرقم القومي الخاص ب"لارا"، وذلك طبعاً بعد استغلال المعارف والنفوذ ودفع الاكراميات والشاي والدخان. ولم يتبق إلا استخراج رخصة القيادة. لقد أخبره أسطى حسين، السائق الخاص، والذي كان يتولى تعليم "لارا" القيادة بأنه يعرف شخصاً في المرور يمكن أن يستخرج لها رخصة القيادة دون الحاجة لذهاب "لارا" للامتحان. وعلى الرغم من أن "شوكت" له معارف في الداخلية، يمكن أن يقوموا له بهذه الخدمة، فقد كان دائماً ما يفضل أن يدفع لقاء خدماته بدلاً من أن يكون مديناً بمعروف لأحد، خاصة من ضباط الداخلية.
قال "شوكت" للأسطى "حسين":
- خلصلي موضوع الرخصة ده النهارده يا أسطى "حسين"، عايز الرخصة مع العربية علشان أديهم ل"لارا" في عيد ميلادها بالليل!
أجابه الأسطى "حسين" في ثقة: ما تقلقش يا "شوكت" باشا، الصول "أمين" جاري ومش هيتأخر عليا، هو بس قال لي الاكرامية بتاعته عالية حبتين!
زم "شوكت" شفتيه في تأفف وهو يقول:
- صول يا "حسين"؟ انت جايب لي صول؟
قال الأسطى "حسين" مهدئاً: يا باشا الصولات والأمناء هما اللي ممشيين الداخلية دلوقتي، وبعدين أهم حاجة المصلحة تخلص.
قال "شوكت" في تبرم:
- وعايز كام الصول ده؟
قال الأسطى "حسين" في لهجة تشبه الاعتذار:
- خمس تلاف جنيه سعادتك!
قال "شوكت" في لهجة من يريد الانتهاء من الحديث:
- خدهم من الاستاذ "شريف" في الحسابات وتجيب لي الرخصة قبل العصر.
لم يصدق الأسطى "حسين" سهولة الأمر، ولكنه شعر في هذه اللحظة فقط أنه كبر وفهم ميزة مرور التجمع بالنسبة للصول "أمين"!
نقد الأسطى "حسين" الصول "أمين" المبلغ كاملاً، الذي أخذ يحصيه ليتأكد، بينما ناوله رخصة القيادة التي صدرت حتى قبل صدور الرقم القومي ل"لارا"، ولم يفهم الأسطى حسين كيفية حدوث ذلك، فهز رأسه في تعجب وهو يقول:
- أه يا بلد!
أجابه "أمين" ضاحكاً:
- عرفت بقى ميزة "التجمع" يا قفل؟!
بعد مرور شهر، كان الصول "أمين" واقفاً في اشارة مرور في شارع "التسعين"، عندما جاءت سيارة مسرعة لم تتوقف في الاشارة لرعونة السائق، أو قلة خبرته، لتطيح به عالياً ثم تواصل سيرها في سرعة لتختفي عن الأعين وقد أصاب الذعر كل من في الشارع. سقط الصول "أمين"، وهو لا يكاد يصدق، وقد عجز عن الحركة تماماً، بينما حضرت الاسعاف لتحمله إلى أقرب مستشفى شرطة، وتوفى بعد ساعتين متأثراً بجراحه
أفاد الشهود أن السيارة هي من طراز بي ام دبليو، موديل حديث، رياضية، فضية اللون، تقودها فتاة لا يتجاوز عمرها الثامنة عشر، ولم تكن هناك لوحات معدنية على السيارة. ولقلة هذا النوع من السيارات، فقد تم حصر المالكين، ثم التوصل لقاطني التجمع منهم. بينما تقدم "شوكت" للنيابة في مساء نفس اليوم، ومعه الأسطى "حسين" الذي اعترف بارتكابه الحادث، وهو يبتسم لنفسه في ظفر، فقد استطاع أخيراً هو الأخر الاستفادة من مميزات التجمع الخامس
تعليقات
إرسال تعليق